1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

مقهى موكا ـ مشاهدات نقدية لراينهارد كيفر من أغادير المغربية

رشيد بوطيب١ يوليو ٢٠٠٧

تزايدت الكتب والدراسات التي تتناول طبيعة الحياة في العالم العربي، غير أن كتب الرحالة تبقى الأقرب إلى روح هذا العالم وواقعه كونها تحكي تاريخ من لا تاريخ لهم، مقهى موكا أحد هذه الكتب بلا ريب.

https://p.dw.com/p/B80f
مقهى موكا، الصادر عن دار رامبو الألمانية

"كل إنجليزي هو جزيرة" كتبت نوفاليس، و"كل عربي هو صحراء أو واحة"، كتب الألماني راينهارد كيفر في كتابه حول المدينة المغربية أغادير. لم يقف راينهارد كيفر بعيدا عن مجريات الأحداث في هذه المدينة وغيرها، بل اختار أن يقترب في بطء وتأمل منها ومن ناسها وعاداتها وطبيعتها الجامدة والحية، فأخفق أحيانا ونجح أحايين أخرى في سبر أغوارها وفض مكنونها، في عشقها وكرهها.

على خطى إلياس كانيتي

كان كيفر في كثير من تلك الخواطر والمشاهدات قريبا من الكاتب الألماني، البلغاري الأصل، صاحب "أصوات مراكش" إلياس كانيتي، الذي احتفى في كتابه بشخصيات هامشية قد تبدو للعين العادية مقززة، في حين رأتها عين كانيتي حاملة للقدسية والحب والإنسانية. ويعد كتاب كانيتي الذي زار مراكش سنة 1954 برفقة فريق سينمائي أهم ما كتب عن مراكش بشهادة الكاتب الأسباني الكبير خوان غويتسيلو الذي عشق هذه المدينة وحط الرحال بها، وقد غاص كانيتي في حياة المهمشين والمشردين وسوق العميان، ويشعر القارئ بنفسه أمام قصيدة تتغزل بالمدينة وناسها، بعيدة عن كتب الرحلة الاستعمارية التي كانت تنظر إلى واقع الشرق وحياة ناسه نظرة فوقية، متمركزة حول ذاتها متماهية بنزعة التفوق الأوروبية، شأن الرحالة الألماني غيرهارد رولف في القرن التاسع عشر، الذي لم ير في كرم المغاربة وإقدامهم إلى دفع قطع اللحم إلى ناحيته من طبق الطعام سوى"أيديهم المتسخة"!

راينهارد كيفر: المسافر بين عالمين

Buchcover: Mein Erster Aufenthalt in Marokko Und Reise Suedlich Vom Atlas Durch Die Oasen Draa Und Tafilet Gerhard Rohlfs
كتاب الرحلة المغربية لغرهارد رولف

كتب راينهارد كيفر في أول صفحة من كتابه يقول:" كان يغضب حين يجد مكانه شاغرا في ركن بالقرب من النافذة. يجلس فيحضر إليه النادل قهوته بالكريم، يحدث ذلك أوتوماتيكيا دون أن يضطر لطلب ذلك. إنهم لا يراقبونه هنا، فلا هو بابن البلد ولا بالسائح، إنه جزء من المقهى، شأنه شأن أثاثها. حتى وإن دلف إليها بعد أسابيع من الغياب فلا أحد ينتبه إلى ذلك، كما لو أنه لم يغادرها البتة. كل شيء يمضي في طريقه".تقول هذه الكلمات التي افتتح بها كيفر كتابه أكثر مما تنطق به، فالكاتب استطاع أن يتحرر من عين السائح السطحية، التي تقبل على جغرافيا المكان دون أن تنتبه لتواريخه، لقد صنع له مكانا بين هؤلاء الناس حتى أضحى جزءا منهم، لا يشعرون بأنه غريب ولا يشعر هو بينهم بغربة، وتشعر به مقبلا في بهجة وفي غضب أحيانا عليهم وعلى عوالمهم وتواريخهم بل وعلى حيوانات المدينة، فيقف أمام كلاب أغادير، ليتذكر ريلكه في القيروان سنة 1910، القيروان التونسية التي لم يكن مسموحا لغير المسلمين بدخولها لقرون عديدة، ريلكه الذي عضه كلب مرة واحدة في حياته، حدث ذلك في القيروان. ريلكه، لم ينقم على الكلب، وإنما وافقه على صنيعه، لأنه كلب مقدس، كلب ينتمي إلى مدينة القيروان المقدسة! لكن كيفر ليس ريلكه، وكلب القيروان المقدس لا يشبه في شيء كلاب أغادير التي تحتل شوارع المدينة ليلا، أو التي تزعج كاتبنا وتوقظه من النوم فجرا. ومع ذلك فإن كيفر يؤكد على أن المرء لا شيء آخر غير ما يلاحظه ويراه ويسمعه ويعرفه ويستقبله، وأنه عبر كل ذلك يتصل بالحياة، كما يؤكد في موضع آخر بأنه لا يمكن أن نحكي حكاية في بلد لا أساطير لها ولا أديان، ويعرج على حكايات ألف ليلة وليلة التي يرى أنها تجمع الصور الأصلية للروح البشرية.

أدب الرحلة الأوروبي ـ نظرة نقدية إلى الشرق

Marokko Stadt Agadir Tourismus
مشهد من مدينة أغادير المغربيةصورة من: picture-alliance/ dpa

بعيدا عن الأحكام المسبقة، وعن نزعة التفوق التي سيطرت على العديد من الرحالة الأوروبيين، لا يستطيع المرء أن ينكر أن الكثير من مشاهداتهم لم تكن ضرب خيال وإنما تعبيرا عن واقع، ولعل ما يستوقف المرء خصوصا في هذا الباب هو وصفهم للمستبد الشرقي، لجشعه وتعطشه إلى الدم، ولكل تلك العقد النفسية التي كونت نفسية هذا المستبد قديما وحديثا. حقيقة وقف عليها راينهارد كيفر في زيارته للمغرب، وكتب عن احتفالات عيد العرش، عن المدينة التي تتغير بين عشية وضحاها، عن المدينة التي ترفع صور الملك في كل مكان وتفرش السجاجيد ويلقى بالخلق إلى الشوارع، وتغلق الطرق وتحبس الأنفاس لدى مرور موكب ملك هو أقرب إلى الإله. كيفر لم يستطع مع ذلك أن ينقل خروج الملك إلى الرعية بنفس الصدق وبتلك الدقة التي نقله بها رحالة أخر كبير، هذه المرة من ايطاليا، إنه دو أميسيس الذي كتب قائلا في نهاية القرن التاسع عشر عن الملك المغربي:"... جماهير المتوددين على جانبيه ووراءه تبدو كما لو صارت حجرا. كل النظرات مثبتة على هذا الوجه المركزي، ولا يسمع صوت نفس. ولا نرى غير وجوه جامدة ومواقف إجلال عميق. نرى خادمين يبعدان الذباب عن رجليه بأيديهم المرتجفة، والآخر يمسح بين الفينة والأخرى طرف قبعته كما لو كان يطهرها من اتصالها بالهواء، وآخر يلامس ردف حصانه بحركة تطبعها خشية دينية، أما المكلف بالمظلة فيقف معقوفا ونظره موجه إلى الأرض كما لو كان مشدوها أمام جسامة مهمته. كل ما يحيط به يشهد على سلطته الكبيرة، وعلى المسافة الشاسعة التي تفصل هذا الرجل عن كل الآخرين، وعلى الخضوع المطلق والولاء المتعصب والحب المتوحش المتقد الذي لا ينتظر غير مناسبة البرهنة عليه بالدم. إنه يبدو إلها أكثر منه ملكا". كلمات تحمل لا ريب أكثر من دلالة، وقد لا نصادفها في كتب التاريخ الرسمية، التي خلقت لتزيف الحقائق وتتحايل على الوقائع. إن نظرة إلى الآخر، إلى ما كتبه عنا، أمر لا مندوحة عنه، ليس فقط لفهم الآخر، ولكن خصوصا لفهم أنفسنا.

رشيد بو طيب