1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

ماري كالفن كما عرفتها

١٨ أبريل ٢٠١٢

كتب ثامر مراد خلاصة تجربته مع شهيدة حرية الصحافة والحقيقة الصحفية الامريكية ماري كالفن في مقال حصري خاص بموقع العراق اليوم.

https://p.dw.com/p/14ffB
صورة من: Reuters

حينما سمعتُ خبر مقتل الصحفية العملاقة " ماري كالفن" في سورية أثناء تغطية الأحداث – المعروفة – للجميع هناك شعرت بمطارق فولاذية قد هوت على رأسي ومزقته إلى أشلاءٍ متناثرة. لم أصدق أن هذه الأنسانة الرقيقة رقة نسيم الصباح وحلاوة العسل في طراوته قد تمزت أشلائها بقنبلة عمياء وفي غفلةٍ من الزمن. وأنا أنظر إلى صورتها التي إحتلت ركناً بارزاً في إحدى صفحات النت طار ذهني بعيداً... بعيداً... جداً إلى تلك السنوات التي كانت تعصف في بلادي من كل الجهات. في تلك الحقبة الزمنية كنت أتفجر شباباً وحيوية لا توصف وفي غفلةٍ من التاريخ وجدتُ أمامي " صحفية جميلة ناعمة بقدر نعومة أزهار الفجرِ في يومٍ ندي". لم أكن قد أوليتُ لها أهمية في بداية الأمر فهي واحدة من صحفيات وصحفيون كثيرون تجمعوا عند بوابة " فندق الرشيد" وكل واحد منهم كان يتفاوض مع مرافقاً من مرافقي " وزارة لأعلام " التي كانت لا تسمح لأي أحد بالتجوال داخل العاصمة ما لم يكن معه أو معها مرشداً أو دليلاً من دائرة الأعلام الخارجي التي أنتسبُ إليها في ذلك الزمن. نظرتُ إليها بكبرياءٍ وكأنني أريد أن أقول لها " لن تستطيعين التنقل بدوني أنا القادم من أعماق الريف ". كانت تنظر اليّ بتواضع وهي تبتسم برقة متناهيه. شعرتُ بزهو طفولي . وشاء القدر أن أكون مرافقاً لها لساعاتٍ طويلة لا بل لأيام عديدة. في اللحظة التي جلسنا فيها مع بعض نرسم خطوطاً لبرامج متعددة تريد إنجازها أثناء فترة بقاءها في بغداد شعرتُ أنني أمام " مخلوق أنثوي" عملاق لايتوقف عن إعطاء أفكار لا حد لها ولا يمكن أن أصل إلى ربع المعلومات التي تملكها عن كل شيء يتعلق بالسياسة وطبقات المجتمع المختلفة. دون أن ترفع رأسها عن الورقة الصغيرة التي كانت تضع عليها خطوطاً متنوعة قالت بثقة " أريد أن أعمل صفحتين أو ثلاثة عن أي قصة تتعلق بصدام حسين" .

دون وعي قلت لها بأنني أعرف فناناً إسمه " نهاد السعدي " يرسم صور صدام حسين بدمهِ وقد أقام معرضا لتلك الرسومات في بابل. " وقبل أن أكمل حديثي صرخت وكأن مساً من الجنون قد تلبسها " أريد أن أقابل هذا الفنان مهما كان الثمن" . راحت تقنعني بشتى الوسائل من أجل الوصول اليه وطلبت مني وعداً أن لا أخبر أي صحفي عن الموضوع لأن هذه القصة ستكون لها وحدها. وبدأ العمل معها منذ تلك اللحظة. بدأتُ أبحث عنه في كافة الأماكن المحتملة وكانت مهمة شاقة جداً في بداية الأمر. كلما ذهبنا الى مكان قالوا لنا بأنه ذهب إلى المكان الآخر. وبطريق الصدفه قال لي شخصا ما بأنه يتواجد ألآن في كازينو في باب المعظم وطرنا اليه بسيارتنا نشق عباب الترقب والوجل من أن لانجده هناك. في البداية رحبت به وبينت له الموضوع الذي جاءت من أجله. فرح " نهاد" لأنه على حد قوله " أريد أن أخلد الرئيس القائد بدمي". حاولت أن تستفزه في بداية ألأمر حينما قالت له بالحرف الواحد " كيف تثبت لي أنك ترسم بدمك الحقيقي؟ ربما أنك تستخدم دماء طيور أو حيوانات وتريد أن توهم العالم بأنك ترسم صور الرئيس بدمك؟" . إبتسم بكبرياء وهو يقول " فلنذهب إلى إحدى المستشفيات وسأُريكِ كيف أنني أستخدم دمي الحقيقي". وتوجهنا صوب إحدى المستشفيات . إستلقى على السرير وراحت الممرضة تسحب من دمهِ وهو ينظر إلى " ماري كالفن " بأعتزاز وتحدي. همست في أذني بأنها لاتستطيع أن تلتقط له الصور لأنها ستصاب بالغثيان على حدِ قولها وطلبت مني أن ألتقط له الصور بكامرتها الصغيرة. وقفتْ عند باب الغرفة التي كان الشاب فيها والتقطتُ له عدة صور. بعد أن وضعت له الممرضة قطعة من القطن على الجرح نهض ,اخرج قطعة من الورق وراح يرسم صورة " صدام" أمامنا. وفي غضون خمسة عشر دقيقة "وقَّع" على الصورة وسلمها إلى ماري وهو يقول " هذه هدية مني لك". قالت بالحرف الواحد " أوه...لي ..لا أصدق ذلك". طلبت منه أن يقف أمام بناية المستشفى لتلتقط له صورة وهو يحمل الرسم بيده. كان " نهاد من مدينة " ديالى " . وقف بحياء وهو يمسك الصورة بيديه بأتجاه الكامرة. بعد أسبوع وصلت المقالة مع الصور إلى " صدام حسين" وعندها أرسل في طلب الفنان و شكره ثم قدم له هديه عبارة عن شقة مؤثثة في شارع حيفا وسيارة حديثة وخمسة آلاف دولار.

حينما جلسنا في فندق الرشيد لأجراء مقابلة مع الفنان سألته ماري بالحرف الواحد " لماذا ترسم صور الرئيس بدمك؟" أجابها بالحرف الواحد " صدام يجري في عروقي وإذا حاولتِ ألآن شق ذراعي فأنك ستجدين إسم صدام يسير في دمي بلا توقف". إبتسمت وهي تنظر إلي وهمست " هل تعتقد أن مايقوله صحيح؟ أعتقد أن هذه طريقة فريدة للتقرب من الرئيس ومحاولة الحصول على مكاسب كما كان يفعل الشعراء في العصور المختلفة للحصول على أموال من الملوك ورؤوساء القبائل على مر العصور.. هذه طريقة بشعة في التعبير عن الولاء لرئيس من رؤوساء إحدى الدول العربية." لم أعلق على قولها لأن الوضع كان حرجاً في ذلك الزمن وأي مصادقة على كلامها قد تعرض حياتي للخطر . وتوالت أعمال أخرى معها في مناطق متفرقة في بغداد. مرة كنت أسير معها بأتجاه البوابة الخارجية لفندق الرشيد وشاهدني أحد ألاصدقاء وقال مازحاً " أنت محظوظ لأنك مع فتاة جميلة.. حاول أن تستغل الصداقة في أمور عاطفية معها". ضحكتُ بأعلى صوتي لمزحتهِ . سألتني مبتسمه" أرجوك لا تكذب علي وقل لي بالضبط ماذا قال لك؟". قلت ُ لها " يقول " أنت تسير مع فتاة صغيرة جميلة". ضحكت بأعلى صوتها وقالت كلمة واحدة" فتاة؟" بعد قليل أردفت قائلة " كان من المفروض أن يقول سيدة وليست فتاة ". كانت سعيدة بكلمة " فتاة" لأن ذلك معناه أنها لازالت شابة. تذكرتُ كل هذه ألأحداث وأنا أنظر إلى صورتها وهي تضع قطعة سوداء على إحدى عينها. حينما سألتها يوما ً ما كيف حدث هذا قالت لي " أصابتني طلقة في أفغانستان أو دولة أخرى لا أذكرها.

كانت " ماري كالفن" إمرأة جريئة لاتخشى توجيه أي سؤال يخطر في ذهنها حينما كانت تجري حواراً مع أي مسؤول عراقي. ذهبت " ماري" إلى العالم الأخر وهي تبحث عن الحقيقة في سورية ولم تكن تخشى أزيز الرصاص ولا أصوات المدافع المنطلقة في زوايا مختلفة. ستبقى خالدة في ذاكرة التاريخ فقد قدمت روحها من أجل الكلمة الحرة وهي تبحث عن الحقيقة في أشد الظروف رعباً. وداعا ً " ماري" ولن أنسى اللحظات الجميلة التي قضيناها سوية ونحن ننتقل من شارع إلى أخر في بغداد وأنتِ تؤدين واجباً مرهقاً بكل المعايير المعروفة للجميع.

ثامر مراد

مراجعة ملهم الملائكة